فصل وقعة القادسية. كانت وقعة القادسية وقعة عظيمة لم يكن بالعراق أعجب منها، وذلك: أنه لما تواجه الصفان كان سعد رضي الله عنه قد أصابه عرق النسا، ودمامل في جسده فهو لا يستطيع الركوب، وإنما هو في قصر متكئ على صدره فوق وسادة وهو ينظر إلى الجيش ويدبر أمره، وقد جعل أمر الحرب إلى خالد بن عرفطة، وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح، وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مدداً من عند أبو عبيدة من الشام بعدما شهداً وقعة اليرموك. وزعم ابن إسحاق: أن المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن رستماً كان في ستين ألفاً، فصلى سعد بالناس الظهر، ثم خطب الناس فوعظهم وحثهم، وتلا قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] وقرأ القراء آيات الجهاد وسوره. ثم كبر سعداً أربعاً، ثم حملوا بعد الرابعة فاقتتلوا حتى كان الليل فتحاجزوا، وقد قتل من الفرقين بشرٌ كثير، ثم أصبحوا إلى مواقفهم، فاقتتلوا يومهم ذلك وعامة ليلتهم، ثم أصبحوا كما أمسوا على مواقفهم، فاقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة تسمى: ليلة الهرير. فلما أصبح اليوم الرابع اقتتلوا قتالاً شديداً، وقد قاسوا من الفيلة بالنسبة إلى الخيول العربية بسبب نفرتها منها أمراً بليغاً، وقد أباد الصحابة الفيلة ومن عليها، وقلعوا عيونها، وأبلى جماعة من الشجعان في هذه الأيام مثل: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله البجلي، وضرار بن الخطاب، وخالد بن عرفطة، وأشكالهم وأضرابهم. فلما كان وقت الزوال من هذا اليوم، ويسمى: يوم القادسية، وكان يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة كما قاله سيف بن عمر التميمي، هبت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها، وألقت سرير رستم الذي هو منصوب له، فبادر فركب بغلته وهرب فأدركه المسلمون فقتلوه، وقتلوا جالينوس مقدمة الطلائع القادسية، وانهزمت الفرس ولله الحمد والمنة عن بكرة أبيهم. ولحقهم المسلمون في أقفائهم، فقتل يومئذ المسلسلون بكمالهم وكانوا ثلاثين ألفاً، وقتل في المعركة عشرة آلاف، وقتلوا قبل ذلك قريباً من ذلك. وقتل من المسلمين في هذا اليوم وما قبله من الأيام ألفان وخمسمائة رحمهم الله. وساق المسلمون خلفهم المنهزمين حتى دخلوا وراءهم مدينة الملك، وهي المدائن التي فيها الإيوان الكسروي، وقد أذن لمن ذكرنا عليه فكان منهم إليه ما قدمنا، وقد غنم المسلمون من وقعة القادسية هذه من الأموال والسلاح ما لا يحد ولا يوصف كثره، فحصلت الغنائم بعد صرف الأسلاب وخمست، وبعث بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد كان عمر رضي الله عنه يستخبر عن أمر القادسية كل من لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشق الخبر، فينما هو ذات يوم من الأيام إذا هو براكب يلوح من بعد فاستقبله عمر فاستخبره. فقال له: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل يحدثه وهو لا يعرف عمر، وعمر ماش تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر، فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال: لا حرج عليك يا أخي.