أحمرت إشارة المرور فتوازي أتوبيس صدي يتلاصق فيه الناس كأنهم يوم الحشر مع سيارة فارهة يلمع جسدها النظيف في وقت الظهيرة, سائقها والسيدة الرشيقة التي تجلس خلفه وإلي جوارها ابنتها الصغيرة رائعة الحسن لا يشعرون أبدا بالصهد الحارق الذي يلفح وجوه العابرين, ولا يتصببون عرقا كركاب الأتوبيس, الذين يتخالط شهيقهم بزفيرهم حتي كادوا أن ينخنقوا.
الأكثر شعورا بالأختناق كان هذا الطفل الوديع الملقي علي ساقي أمه البدينة الجالسة علي مقعد متهالك يوشك أن يسقط علي حجر الرجل الطويل الجالس وراءها.
أخذت البنت تشكو من الصقيع المنهمر بلا هوادة من أفواه التكييف الصغيرة, بينما أخذ الولد يتبرم من السخونة ورائحة العرق. مد الولد يده ليفتح النافذة التي كانت تحوي ملصقا مكتوب عليه الصبر مفتاح الفرج. ضغطت البنت زرا بجانبها فإنزاح الزجاج المعتم إلي أسفل, وتدفق شعاع الشمس الي رأسها واصطدم بالموسيقي اللينة المنبعثة من سماعات حساسة جدا والهاربة إلي أذن الولد.
التفت الولد إلي النافذة المغردة فملأ عينيه من وجه البنت. ابتسم لها فبادلته الأبتسامة. رفع يده علي استحياء وراح يلوح لها فمدت يدها ولوحت في فرح. ثم تعانق وجهاهما في صمت وبلا انقطاع.
كانت الأم البدينة منشغلة بتجنب ملاصقة ساق الرجل الغريب الذي يجلس جوارها. كانت الأم الرشيقة تغمض عينيها مستسلمة للنغمات العذبة.
دفع الولد رأسه من النافذة فشعر بلسعة وانسكب نور مبهر في عينيه فأغلقها. فعلت البنت مثله فارتاحت للدفء وغرفت بكفيها بعض الضياء النائم علي الزجاج الرمادي القاتم.
سائق الأتوبيس لا يري أحدا ولا شيئا إلا الإشارة الحمراء التي ينتظر إخضرارها, فيواصل رحلة الزحف التي لا تنتهي. سائق السيارة يتابع كل ما يجري في المرآة الجانبية ويبتسم, مطمئنا إلي إغفاءة السيدة الغارقة في قيعان الموسيقي الساحرة.
اخضرت الإشارة فجأة. ضغط سائق السيارة علي زر فارتفع الزجاج, وانحبست الموسيقي, واندفعت العجلات تمرق إلي حيث لا يدري الولد. تململ الأتوبيس وشحر واهتز بخطوات وئيدة, تأرجح للها الركاب, ولم يلق لهم السائق بالا, كما لم ير رأس الولد المعلق في وسط الشارع يبحث عن صاحبته التي غابت في الزحام.